تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الطبيعة العمرانية للبلدة القديمة

المصادر التي بين أيدينا مقلة جداً في وصف شكل المدينة، وكيف كانت نشأتها، لكننا نستطيع في ضوء المعلومات التي وفرتها بعض كتب الرحالة الأجانب والمسلمين على مر التاريخ، على الرغم من قلة هذه المعلومات، أن نرسم صورة، أحياناً دقيقة وأحياناً أخرى تقريبية، عن شكل المدينة في بداية تكونها بالقرب من المسجد الإبراهيمي الشريف (بعيداً عن موقعها الأول تل الرميدة).

من الواضح أن المدينة استفادت في تكونها وشكلها من عناصر مهمة ثلاثة؛ أولها، موقعها إلى جانب قبر إبراهيم عليه السلام، إلا أن الخليل بقيت قرية كبيرة متواضعة البناء. أما الأمر الآخر الذي ساعد على تشكل المدينة ومورفولوجيتها، فهو وقوعها ضمن وادي الخليل، الذي كان يضم أنواعاً مختلفة من أشجار الفاكهة والعنب والزيتون وغيرها، إلى جانب وجود عيون الماء العذبة، وكان الوادي يخترق المدينة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، فقسمها إلى قسمين، امتدت المباني فيه وحول المسجد، وفي الوقت نفسه كان الوادي يعتبر أحد الطرق التجارية المهمة التي تصل الخليل بمصر والكرك.

وأما المؤثر الثالث فهو تل الرميدة، حيث أن هذا الجبل هو الموقع الكنعاني الأول للمدينة، وبقي رافداً من روافد المدينة الجديدة، كما بقي عامراً في بعض أجزائه حتى الحروب الصليبية.

أولا: هيئة العمران وتخطيط المدينة

يمكن الافتراض، ولو أن الأمر بحاجة ماسة إلى المزيد من البحث، بأن العمران قد انتقل تدريجياً وبشكل متواضع من تل الرميدة إلى الموقع الحالي، وذلك ما بعد العصرين الروماني والبيزنطي. وحين جاء الإسلام، توسعت المدينة بشكل ملحوظ، وازدادت توسعاً بعد أن فتحها صلاح الدين الأيوبي العام 1187م، ولكن يمكن القول إنها قد وصلت إلى أوج ازدهارها العمراني في العصر المملوكي. وهذا يقودنا إلى الاعتقاد بأن الكثير من مساكن البلدة القديمة، وبخاصة الطبقة الأرضية فيها على أقل تقدير، تعود إلى نهاية فترة المماليك، وأما ما تبقي منها فيعود إلى العهد العثماني.

لم يكن المسجد الإبراهيمي هو مركز التخطيط في المدينة، كما هو الحال في المدن الإسلامية، حيث يتوسط المسجد ودار الإمارة أو الحكم مركز المدينة، وإنما جاء المسجد في طرف المدينة في البداية، ثم تمدد العمران بالاتجاهات المختلفة. ويمكن الاعتقاد بأن الطرق الداخلية في البلدة القديمة كلها جاءت في تخطيطها لتخدم الوصول إلى المسجد، فالطريق الرئيس الذي يخترق المدينة، وهو الذي يبدأ من عين العسكر غرباً ماراً بحارة القزازين، ثم ينعطف شمالاً عند قنطرة "خزق الفار"، ثم يستمر صعوداً لينتهي عند المسجد، ليقسم المدينة إلى قسمين شمالي ـ شرقي، وجنوبي ـ غربي، ولا نجد طريقاً رئيساً يتقاطع معه غير طريق سوق اللبن، وهو طريق ينعطف في الشمال يميناً نحو المسجد، وفي الجنوب ينتهي في حارة بني دار. وقد جاء هذا الطريق الرئيس أيضاً وفق التركيب الطوبوغرافي للأرض، حيث يوازي في مساره مجرى وادي الخليل.

وجاءت الطرق الفرعية وفق تخطيط المدينة الإسلامية، حيث تخللت المدينة شبكة من الطرق النافذة وأخرى غير النافذة، وفي غالبيتها تنتهي إلى ساحة صغيرة وسط الحارة، تتفرع منها أزقة تقود إلى أحواش، أقيمت على غالبيتها قناطر ليستفاد منها في السكن وتظليل الشارع، وجميعها تقود إلى المسجد أو دور العبادة والمرافق العامة الأخرى. وينطبق هذا القول على تخطيط المساكن فيها أيضاً، حيث جاءت وفق طبوغرافية الأرض، لكنها متلاصقة، مشكلةً بذلك جسد المدينة المسور من جميع الجهات.

وفي العام 1968، قامت جرّافات قوات الاحتلال بتدمير المدخل الرئيس للمسجد، وأمرت أهالي المساكن المجاورة بإخلاء مساكنهم، حيث فتحت طريقاً خاصاً لمستوطني كريات أربع يقود إلى المسجد، وأزالت الجرّافات، دون توثيق، العديد من المباني التاريخية والأثرية، وشرعت بعمل حديقة في ساحات المسجد من جهة الجنوب والغرب، وضاع ضمن ذلك الكثير من الآثار الإسلامية.

ساهمت هذه الأحداث مجتمعة في تدمير الكثير من المباني، الأمر الذي أدى إلى هجرة المزيد من السكان لمنازلهم وحاراتهم، وأخذوا بالانتشار بداية في حي باب الزاوية، وعلى أطراف المدينة، أو البناء داخل الساحات والبساتين داخل النسيج العمراني التقليدي ضمن البلدة القديمة.

ثانياً: الحارات

إن تقسيم المدن إلى أحياء أو حارات مغلقة إلى حد ما، هو شكل تنظيمي قديم جداً، ولا زال النقاش دائراً حول منشئه الأصلي. وفي حالات عديدة تم تكوين الأحياء لإسكان جماعات مختلفة عرقياً شاركت في بناء المدينة. وكان تقسيم المدينة إلى أحياء، يبين أيضاً، رغبة كل طائفة في التجمع لتكوين خلية اجتماعية متلاحمة، وقد ازداد هذا التقسيم حدة وأصبح أكثر شمولية لأسباب أمنية. ومما لاشك فيه، أنه في ظل الدولة العثمانية ازداد تقسيم المدن إلى وحدات منفصلة، وذلك بسبب ازدياد أعداد الجوالي والاستقلالية النسبية التي كانت ممنوحة لهم (نظام الملة/الملل).
 

أ- الحارات النواة

1. حارة القزازين2. حارة السواكنة3. حارة بني دار4. حارة العقابة5. حارة القلعة6. حارة الحوشية7. حارة المحتسبية8. حارة المدرسة9. حارة الأكراد10. حارتا النصارى واليهود11. حارة المشارقة 

 

ب-الحارات المنفصلة عن البلدة القديمة


وهي تلك الحارات التي تقع خارج النسيج العمراني التقليدي، وذلك ضمن البيئة الحضرية التقليدية للبلدة القديمة من الخليل، وقد أطلقنا عليها مجازاً "أحياء" تميزاً لها عن حارات البلدة القديمة، وإن كانت لا تخرج في تخطيطها العمراني عن مفهوم الحارة أو المحلة، ولكنها انفصلت عن جسد المدينة بسبب موقعها، وذلك لأسباب تاريخية كحي الشيخ علي بكا، وقيطون، أو لحداثتها مثل حي باب الزاوية.

  1. حي قيطون
  2.  حي الشيخ علي بكا (البكاء)
  3. حي باب الزاوية

 

ثالثاً: المؤثرات السلبية على العمران في البلدة القديمة

تعرضت حارات وأحياء البلدة القديمة من الخليل إلى العديد من الأحداث التي أثرت سلباً على العمران فيها، ما أدى إلى تدمير المباني والحارات، وتصدع الكثير منها. فقد تعرضت المدينة للعديد من الزلازل، كان أخطرها في العصر الحديث الزلزال الذي حصل العام 1837 والعام 1927، هذا عدا عن عاتيات الدهر والطقس والثلوج، ما ألحق بأحياء المدينة دماراً كبيراً جداً.

كما كان للحملة المصرية بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير العام 1831-1840، أثر في تدمير عدد كبير من مباني البلدة القديمة، حيث تم قصف المدينة بالمدفعية سنة 1834، ما أدى إلى تحطيم الكثير من المساكن، وعلى أثر ذلك ترك السكان مساكنهم المدمرة وخرجوا نحو الأحياء الأخرى، إما داخل البلدة القديمة وإما نحو حي باب الزاوية. كما أثرت الحرب الأهلية التي حصلت في أعقاب خروج الجيش المصري العام 1840 بين عبد الرحمن عمرو، الذي كان زعيما (شيخ ناحية) لجبل الخليل، وبين سكان المدينة، وخروج عبد الرحمن عمرو على السلطة المركزية العثمانية، وتمرده هذا أدى إلى ضرب المدفعية العثمانية البلدة القديمة، ما ألحق بها دماراً إضافياً. وفي العام 1965، قامت دائرة الآثار الأردنية بتوسعة الساحة التي تقع أمام المسجد الإبراهيمي وإزالة المساكن وأجزاء من حارتي القلعة والمدرسة. وأزيلت كذلك تكية سيدنا إبراهيم، التي أقيمت في العهد الفاطمي بجانب المسجد من ناحية الشرق، وأزيل أيضاً متوضأ كان يقع خلف التكية، التي كانت تشغل قسماً من الرباط المنصوري (أنشئ العام 1297م)، والذي كان يقع عند الركن الجنوبي الغربي لسور المسجد.

وفي العام 1968، قامت جرّافات قوات الاحتلال بتدمير المدخل الرئيس للمسجد، وأمرت أهالي المساكن المجاورة بإخلاء مساكنهم، حيث فتحت طريقاً خاصاً لمستوطني كريات أربع يقود إلى المسجد، وأزالت الجرّافات، دون توثيق، العديد من المباني التاريخية والأثرية، وشرعت بعمل حديقة في ساحات المسجد من جهة الجنوب والغرب، وضاع ضمن ذلك الكثير من الآثار الإسلامية.

ساهمت هذه الأحداث مجتمعة في تدمير الكثير من المباني، الأمر الذي أدى إلى هجرة المزيد من السكان لمنازلهم وحاراتهم، وأخذوا بالانتشار بداية في حي باب الزاوية، وعلى أطراف المدينة، أو البناء داخل الساحات والبساتين داخل النسيج العمراني التقليدي ضمن البلدة القديمة.

 

رابعاً: الخدمات العامة

تمتعت البلدة القديمة بالعديد من الخدمات العامة مثل شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق المعبدة، وقد جرى تنفيذ الجزء الأكبر من هذه الأعمال مع بداية القرن العشرين. ويذكر أن شوارع المدينة كانت مبلطة بالحجر الأصفر المنحوت، وبعضها الآخر غير معبد.

 أما فيما يتعلق بالصرف الصحي، فقامت بلدية الخليل العام 2006 بتغيير الأقنية القديمة، التي تعود إلى عصور مختلفة آخرها العثماني، واستبدالها بمواسير حديثة. ويذكر أن نظام الصرف الصحي داخل البلدة القديمة أنشئ في نهاية العهد العثماني، وذلك بعد تشكيل أول مجلس بلدي في المدينة بين العامين 1874-1882، فقام المجلس بتمديد المجاري في البلدة القديمة. وفي خمسينيات القرن العشرين، دخلت الكهرباء المدينة. وفي الوقت الحالي، وضمن مشروع إعمار البلدة القديمة، تم تجديد شبكة الصرف الصحي وتوصيل المياه والكهرباء إلى جميع المساكن، كما تم ترميم شوارع البلدة القديمة وأزقتها.


لتفاصيل إضافية، يمكنك الإطلاع على كتاب "الخَلِيـلُ القَدِيمَـةُ سِحْرُ مَدينةٍ وعَمَارةٌ تَاريخيّة"، الموجود لدى لجنة إعمار الخليل.